أبو جعيدي ذلك الصوت الذي يسكننا في كل نص نقرؤه له ، ولا يكاد يفارقنا صوته المعبر في كثير من الأوقات ، وفي كثير من الخلوات ، يطرق مسامعنا صوته بأوتاره الشجية الحزينة الممتلئة ببواعث ولوا عج الحرمان ، فتخترق أنسجة مشاعرنا من كل حدب وصوب ، لتؤكد مقدرته وتفرده على إبراز مدى توغل الألم و الحزن في نفسه ، وسيطرته على مشاعره .
ويوضح قدرته الفذة على الإسماع ، انطلاقا من قدرته على الإنصات ، والاستماع لأصوات الحزن والألم ، ودندنته القادمة مع الريح ، وهدير الذكريات ، وصراخ الوحدة وتشـنجات البعاد ، و تسابيح العصافير وهي تعود لأوكارها كل مساء .
أبو جعيدي ….. يَســمَع ويُسـمِع بكلمات لها معاني تجعلك تعيش الحدث لحظة بلحظة ، فتنتابك ما انتاب صاحبه من ضعف بشري ، وما اجتاحه من حنين جارف ومشاعر فياضة …..
وكم هي نادرة جدا تلك القصائد العاطرة الهامسة الفواحة ، وكم هو نادر أن تجدها في ديوان الجنوب ، ليس لأن أهلها جفاه ،أو غلاظ أفئدة ، بل العكس ، فهم ارق الناس أفئدة ، ولكن لعل شـظف العيش قد حال دون تكاثر هذا النوع من القصائد في شعر الجنوب ، إذ بالكاد نجد بيتاً هنا أو أخر هناك يختلسه الشاعر اختلاساً ضمن إحدى قصائده ، أما أن تجد قصيدة بأكملها كباقة ورد يفوح منها شذا العطر والوفاء ليملأ المكان بعبق رائحته وزاكي أنفاسه ، فهذا قليل بل كما أسلفت في حكم النادر.
ويخرج محمد بن معيض أبو جعيدي( الأعمى ) كاستثناء يتمرد على تلك القاعدة فيصوغ من كلماته عطر فواح ينتشر متمردا على من حوله بصرخات وخلجات شعورية تخترق حجـب القلوب وحجب الصمت والظلام والبعاد والنوى ، وخاصة عندما يرسل خلجاته وقد مزجها بأنفاس حرى تدخل كل القلوب و تصل إلى كل الأسماع إلا فؤاد وسمع محبو بته التي طواها الردى ووارها الثرى .
وبافتتاحية لا مثيل لها أبداً ، افتتاحية تحمل أنفاس الربي المعطرة والتي تتبعها – في غير تناقض ولا تضاد – أنفاس متوقدة حــرّى لم تذق للنوم طعما ، بل لقد أصبح أمنية صعبة المنال ، ذلك لأن مصدرها حب استقر في سـويداء قلب مكلوم ، قد فقد أعز الناس وأغلاهم ، فلم يعد لديه ما يملكه ليقدمه لحبيبته سوى نجوى فؤاد برأه الشوق وأنهكه البعاد وضاقت به الوسيعة ولا أمل له في لقاء ولا حتى نظرة عن بعد فقد طواها هادم اللذات ومفرق الجماعات وألقاها جسدا هامدا تحت الثرى وترك صاحبها يجتر الذكريات ببعض كلمات
يا عطر ، يا فن ، يا وارد عدن ، يا بهج روح
ياليت من كان له في العطر وقت المســا ريح
يرقـد و يهـنا منام الليـل و إن عاش و إن مات
أستغفر الله إذا إني كنت ظلام روحي
قارورته بالف من سوق الندى يا س ما ارقد
لو كان يلتفوا العربان ما رقدوني
ابو جعيدي هاهو في قصيدته ذات الأبيات الستة ، يسبكها ثم يسكبها في زجاجة عطر ويعتني بجوهرها الموسيقي الداخلي أيمــا اعتناء كما اعتنى واهتم بشكلها الخارجي ثم هاهو ينتقي لاستهلال قصيدته ( النـداء ) ويكرره أربع مرات متتالية متتابعة في البيت الأول وحده .
ياعطر ،
يا فن ،
يا وارد عدن ،
يا بهج روح
ثم يعود مع مطلع البيت الثاني ليواصل النداء أيضاً ولكن بعد أن يمزجه بالتمني
ياليت
ليأتي النداء والتمني في لفظ واحد مختصر وقصير جدا ، ليخفي فيه رغم قصر اللفظ عجزه واستحالة تلقي الجواب
تأمل في مطلع القصيدة ، ومطلع البيت الثاني لترى بكل أحاسيسك ومشاعرك صدى الآهات ، وهي تتفجر بركان إثر أخر لتخرج إلى الفسيحة فينقلها الأثير حتى تردد الشعاب والجبال صداها ، وقد عبأها بموسيقى أحرف سبعة تمازجت وتكررت بشكل غير عادي وكان خطها البياني على النحو التالي
.
الألف تكرر ( 34 ) مره ولأنه حرف الآه والألم فقد كانت كثرة مرات تكراره مناسبة لحالة حزنه المؤلمة
النون تكرر 15 مرة ولأنه يشبه القارب التائه فقد استخدمه الشاعر كما الملاح التائه
الراء= 13
الياء = 13
الواو = 12
اللام=12
الميم =8
وهذه الأحرف في مجملها تتناسب بشكل أو آخر لحالة البين والحزن التي انتابت الشاعر وهو يعرض علينا تجربته المحزنة الأليمة .
يا أبا جعيدي – عليك شــأبيب الرحمة والغفران والرضوان – أي سد هذا الذي كان يحجب كل هذه المشاعر المتفجرة وراءه ..؟؟
أي صــدر لم يمزقه الأسى والحزن وهو يناجي حبيبته البعيدة بأحاديث هامسة ، وصارخة ،عاجلة وآنية وكأن من يناجيه يصغي إليه باهتمام شديد .
كيف سيطرت عليها وأحكمت قيادتها فلم تحطم ولم تكتسح كل شئ أمامها ..؟؟
وهل هذه أدوات نداء أم صدى الآهات الحرى ..؟؟
هل هذا حزن أم صور من الأسى والآلام ..؟؟ وجدت طريقا نحو المحبوب فنادته نداء اليائس البائس ، فكان تكرار النداء هو العنوان ، وهو الصراخ بلا عنوان