*منين ياجيك الرضى يا شايل الهم
كيف ترضى وأنت مهموم
والهم لا علق بقلب إنسان فضه
سمسمه وآبدا جروحه
واغداه من بين العرب مسموم حاله
كيف لنا أن نسبر أغوارك يا سعد..؟
كيف نستطيع الوصول إلى توصيف لحالتك وأنت تبوح لنا بما في نفسك عبر هذه القصيدة .؟
إننا بالتأكيد ومهما حاولنا فلن نفيك ولن نفي هذه القصيدة [ المقطوعة الموسيقية ] حقها فلقد إنداح همك عبرها إندياح الشلال من عالي القمم وتفجرت ينابيع إبداعك في كل حرف من حروف قصيدتك هذه ، ولكي تؤكد لنا استيلاء الهم على كل ثنايا قلبك كررت كلمة الهم في قصيدتك [ ثلاث ] مرات متتالية مقابل تكرار [ الرضى] مرتين فقط لتبرز الإيقاع الرهيب [ للهــم ] وكررت حرف السين [ ثلاث ] مرات متتالية
أيضــاً وكان حــرف الميم قد سار معك عبر القصيدة كلها وتكرر [ اثنا عشرة مرة ] ليكون هو محور القصيدة وضابط إيقاعها الموسيقي [ حرف الميم ] الذي ينبع ويستقر بين الشفتين لا يبرحها ولا يغادرها يقبع هناك بينهن في مقدمة الفم أرق مكان في الفم ، الشفتان موطن الرحمة والعذاب ، موطن حرارة الحب وثلجه ودفئه ، الشفتان المقبرتان كما قال طيب الذكر[ نـــزار قباني ]
رحمك الله يا أبا عبدالله
كيف استطعت أن تجمع روابط نفسية وجسمية وعاطفية بحرفين اثنين في آن واحــد هما الهاء والميم لتجســد [هـــم ] بسط نفوذه على شغاف القلب وسرى مع الدم في الجسم كله ليتشكل منه لحـناً حزيناً تنساب موسيقاه نغماً [ تراجيدياً ] متماوج يبدأ من أخر الفم من [ البلعوم ] لا ليغادر بل ليقف ويستقر بين الشفاه
رحمك الله يا أبا عبدالله
كيف تمكنت من تشكيل مقطوعة عاطفية رائعة تتكئ موسيقاها بشكل رئس على ثلاثة أحرف [ س ، هـ ، م ] مفعولها أمضى من مفعول ســهم يخترق بلا هوادة ولارحمة أي جسم ليتركه مضرجاً بدماءه
كأني بك يا أبا عبدالله تقسم بأغلظ الأيمان ــ دون تأله على الله ــ [ وإن فيكم من لو أقسم على الله لأبره ] وأنت تقول { منين ياجيك الرضى يا شايل الهم ] أوهو المستحيل يا شاعر الإحساس الرقيق ..؟؟
نعم هذا والله ليس إغراق ولا مبالغة ولكنها شفافية الوجدان وصفاء الروح وهاأنت لا تترك لأوهامنا مجالاً للشر فتحاصرنا وتقدم في البيت الثاني الدليل بل البيان حين تقول
كيف ترضى وانت مهـــموم …..؟؟
باستنكارك على طريقة الاستفهام الاستنكاري التقريري الذي يصل بنا إلى حقيقة علمية مؤداها أن السم إذا وصل القلب فلا أمل في الشفاء لأن الهم عندك هــو الســم بذاته بل لعله أدهى وأمضى منه وأنكى
الطرف الثاني :
يا أبو جعودا ً من على امتانه مدرهم
وعلى اللبات ملموم
والعنق قل يا لول والا أبريق فضة
لا مشى تنعاج روحه
يا سين غروني منه ما اسمو محاله
إن أبعاد كلمة [ فضــه ] يعني : كسـَّرَه وفرّقَه وفككه ونثر أسنانه ومنه قولهم [ لافضّ فوك ] أي لا نثرت أسنانك ومع أن كلمــة [ فضّ ] تحتوي كل هذه المعاني إلا أنها لاترقى إلى معنى كلمــة [ سَــمـَّه ] من حيث وقعها وشدة إيلامها وقوة إرتباطها بما قبلها لتعطي لحالة الألم التي عايشها الشاعر وصفاً دقيقاً برع ــ رحمه الله ــ في تصويره والتعبير عنه بدقة متناهيه ولأن السم يذيب ولا يكسر ولا ينثر القلب نثر الأسنان بل يذيبه ويحلِّله
كما
نجد في الرد أن [ سعد ] تغشاه الله بوابل رحمته قد أفرغ كل شحناته الانفعالية في [ البدء ]
وتفرغ في [ الرد ] ليتخيـِّل صاحبته ويصفها ، فهي ذات شــعر أسود كثيف يشبه ذلك النبات الربيعي الزكـيّ الرائحة المسمى [ الجعــد ] وأنه [ مدرهم ] وهي كلمة تعني الشعر الأسود الكثيف الغزير الذي ينساب على متنها وجنبي نحرها وصدرها ولا يمكن هنا أن يذهب المعنى إلى [ الدراهم ] بمعناها المادي الرخيص فعاطفه سعد وعلاقته الشفافة لا تقاس هنا بالمقياس المادي ولا تتجه له هنا أبداً حتى وإن اقترب اللفظ من المادة بدراهمها وذهبها وكنوزها فما قبل الكلمة وما بعدها لايحتمل انصراف المعنى إلى ذلك على الاطلاق وإن توهم من توهم
ونجد في معظم قواميس اللغة أن [ مدرهم ] تعني الشعر الأسود الكثيف والحديقة الكثيفة المتشابكة الأغصان فغدى شعرها [ المدرهم ] بسواده وكثافته وهو يغطي ظهرها وصدرها كمقـنعة المرأة إذا قامت للعمل وضعت أحد طرفيها على منكبها الأيسر ووسطها من تحت يدها اليمنى فتغطي صدرها وترد طرفها الأخر على منكبها الأيسر وكذلك يفعل الفارس
واستلأموا وتلببوا *** إن التلبب للمغيــر
[ محيط المحيط ]
واللبب منحر المرآة وموضع القلادة من الصدر ، واللبَّة المرآة اللطيفة المحبة
إذاً فنحن أمام مزج لمعطيات جمال الطبيعة الأخـّاذ حبكته شاعرية [ ســعد ] ومزجته بجمال صاحبته التي تبدو من جمال الطبيعة أجمل وأبها وحين أضفى على شعرها الأسود كل مقومات الجمال هذه بدا له جمال أخر جعلني في حيرة لست أدري أيهما أبرز جمال الأخر …؟؟
هــل الشعر الأسود هو الذي أبرز جمال العنق حين أحاط به أم أن بياض العنق الذي يشبه صافي اللول وطوله الذي يشبه عنق إبريق الفضه هو الذي أبرز جمال الشعر …؟؟
وبضدها تتميز الأشياء فلقد كان يرحمه الله يعلم بفطرته ذلك التلازم الأزلي بين اللونين الأسود والأبيض ومدى مايضفيه أحدهما للأخر عند التقاء هما من عمق وبعد جمالي غير متناهي يدعمه ولا يلغيه
وحين يقول :
لا مشى تنعاج روحه
فإنه بالتأكيد يريد أن يصف لنا وقع ذلك المشي فعاج تعني رفع الصوت ومنه الحديث [ أفضل الحج
العج ] والمراد رفع الصوت بالتلبية والدعاء فهي حين تمشي [ وروحها تنعاج ] إنما تهتـف روحها وتتنسك في دروب الحب وعجاجه
ومن ذلك قول الشنفرى :
وإني لأهوى أن ألف عجاجتي
على ذي كساء من سلامان أو برد
ومنها قول الحريري في مقامته الصنعانية :
ثم إنه لبــَّد عجاجته وغيـَّض مجاجته
فأي صراخ مكتوم كانت تصدره تلك الروح حين مشيها إنه بالطبع صراخ مكبوت لم يكن يسمعه إلاّهو
وه
ـ
اهو يعلن أســاه وأسفه
على فقد ذلك الجمــال وضياعه رغم أنه يحمل [ وســمه وهمه وسمَّه
يا سين غروني منه ما اسمو محاله
فلقد ترك [ كالمحالة ] الموسومة التي ترك الرشــاء عليها وسوماً وأخاديد حتى أوشكت أو كادت
أن تقطعها وغادروه حائراً لا يهتدي إلى سبيل ولايعف لحبيبته عنوان
والمحالة هي تلك البكرة المستديرة التي تجري عليها الحبال عند الاستقاء وطلب الرواء من الماء
* القصيدة الشعبية أعلاه للشاعر الشعبي السعودي الجنوبي ( الباحه )
سعد بن عبد الرحمن المنشلي المتوفى عند منتصف القرن الهجري الماضي