تعودت في زياراتي المتكررة لفيتنام ان اضع ضمن برنامجي : زيارة مدينة دالات التي تقع على جبال لانغ بيانغ، في منطقة المرتفعات الوسطى في فيتنام،
وكل من يزور دالات سيقع في حبها من المرة الأولى لأنها شذية كأنفاس أزهارها ورقيقة كنسائم بحيرتها ومنعشة كهواء غاباتها ولأنها ذات عطاء متدفق كشلالاتها ولها نكهة ورائحة زكية كقهوتها ، فهي مدينة الزهور والغابات ومدينة الحب والحزن بلا تناقض والمدينة الحالمة التي تتوسد القمم ويعشقها الضباب وتصادقها الامطار وأينما تتوجه فستجد ما يسرك من أثار ومعالم تاريخية او ينابيع وبحيرات وشلالات او غابات وحدائق ذات بهجة او مزارع تجد فيها مالذ وطاب من الفواكه وكافة المنتوجات
ومعنى دالات فيما عرفت ( العطاء لسنوات) حيث تشتهر بزراعة الكثير من الزهور وانواع شتى من القهوة ذات الشهرة العالمية ومن بينها القهوة العربية ذات الاصول اليمنية والتي تسمى ( ارابيا كافي ) وتستحوذ بحيرة ( زوان ) الساحرة على مركز فاتن في وسط دالات وهي مستطيلة الشكل هادئة يحيط بها طريق دائري مرصوف ومزروع بالأزهار والأشجار في اغلبه فتمتلك قلوب الساكنين والزائرين وتتزاحم بها الاقدام ويكثر حولها المشاؤون والمتفسحون ينعشون صدورهم بهوائها العليل ويكحلون ابصارهم بجمالها الفريد ويبحرون عبرها نهارا بقوارب بيضاء تشبه طيور الوز شكلا وجمالا وتتناثر على ضفافها العديد من المطاعم والمقاهي التي تقدم العصائر والقهوة الفيتنامية المثلجة والساخنة وأنواع من الطعام وقد تمازجت فيها خضرة الأشجار التي تغطي الجبال المحيطة بها مع الوان خلابة من الزهور البديعة وصفاء وزرقة مياهها فغدت لوحة طبيعية أخاذة .
وكنت قد فتنت مثلهم بجاذبية وجمال بحيرتها الساحرة ، فغدت جزء من برنامجي اليومي اغدو اليها صباحها وارتادها مساءا فأمشي حولها ما وسعني جهدي لأشاهدها وأشاهد ما حولها من أناس وباعة متجولون او مستقرون . ينثرون بضائعهم حولهم على أرصفتها قبيل الغروب مما يغري الناس بالتحلق عندهم وكأنها موائد نثرت هنا وهناك من فواكه ومشويات
ومما لفت نظري وشد انتباهي الكهلة ( هوا ) ذات الستين عاما ومعناها الزهرة وهي منهمكة في عملها بروح مرحة وابتسامة لا تفارق محياها رغم تقدم العمر وتعب السنين فمازال عليها مسحة باقية من جمال فيتنامي اندثر اغلبه مع توالي الليالي والأيام وهي ما تفتأ تحيي زبائنها وتدعوهم الى الجلوس بمهنية عالية وذوق رفيع شدني ذلك المشهد المثير كغيري فاقتعدت مقعدا بلاستيكيا منخفضا الى جوارها بالكاد وصلت اليه فكأنني هبطت عليه من السراة الى تهامة فهو قصير صغير ملتصق بالأرض وتحلقت عندها مع القوم حول موقدها الفخاري المتواضع وعليه اكواز من الذرة والجزر اليمني الأحمر الذي يشبه البطاطس الا انه متطاول وليس مستدير وشرائح السمك المجففة وأنواع عديدة من بيض الطيور المنقط ذي الألوان الجذابة وتحته جمر شبه متقد يشوي في هدوء وتؤدة كل ما عليه ويغدق على المتحلقين بشيء من الدفء فيقتربون منه كل ما احسوا بنسائم البحيرة الليلية الباردة وكلما زادت وتيرة البرد ورائحة الشواء زادت طلبات المتحلقين فتنهمك زهرة في إطعامهم بفرحة غامرة تبدو على محياها وكلماتها اللطيفة بمفردات بسيطة من لغات شتى تعلمتها من زبائنها عبر سنوات قضتها تمارس الشواء لهم في نفس المكان على رصيف البحيرة وتكسب منهم مقابلها ( دونقات ) فيتنامية معدودة نادرا ما تصل الى عشرين دونقا من الزبون الواحد – الريال الواحد = 6 دونقات فيتنامية تقريبا –
تناولت عندها بعض البيض واكواز ذره مشويه على الجمر وكانت لذيذة ومشبعة وكان زبائنها من أماكن وبلاد شتى اجتمعوا حول موقدها لتجاذب اطراف الحديث ونيل قسط من مشوياتها وقد ذكرتني جلستها ورصيف البحيرة ومساءها الشاعري والنسائم الليلية الباردة بقصتي ( الحميصة ) وجلسـة على رصيف المدينة وتشابه في بعض الصور رغم تباعد المكانين فهي ذات الأدوات تقريبا وذات الطريقة مع اختلاف بسيط في بعض التفاصيل
الرصيف و المهفة السعفية وكوز الذرة والفحم والنار الخجلى وطريقة الشواء
أصبحت زهرة بالنسبة لي احدى معالم مدينة دالات التي ارتاح للجلوس عندها على رصيف البحيرة بشكل يومي في الفضاء المفتوح فالمكان بسيط ونظيف وآمن كما فيتنام كلها فلا تسول ولا سرقات ولا مضايقات ولا يطلبك احد بقشيش او بخشيش تذهب آمنا وتعود إلى سكنك في امان واطمئنان وراحة بال
وعند زيارتي الأخيرة كانت هي نفسها كما عهدتها لم يتغير في جلستها ولا أدواتها شيء وحتى مكانها لم تغيره ولم تتحول عنه الى مكان اخر وكأنهما قد تواثقا على الصحبة إلى نهاية العمر وقد اختارته بعناية تحت عمود اضاءة عتيق لست ادري من سبق منهما الأخر إليه وما زال يهب جلستها ضوؤه دون عناء
جلست عندها عشرات المرات في كل مرة كنت ازور فيها دالات
نفس المكان ونفس المشويات الا ان عوادي الزمن غيرت معالم وجهها كثيرا
ورغم ذلك مازالت تمارس مهنتها دون ان تشعر كثيرا بإيقاع الزمان وتوالي الليالي والأيام
وكل ما حولها من مشويات وموقد فخاري و١٢ كرسي وادوات العمل مازالت تحمله على كتفيها يوميا في غدوها ورواحها